الأربعاء، 23 مايو 2012

عقيدتنا في حلقات 10

الطريق الثالث
إن التطورات الحادثة في المادة والطبيعة دليل على وجود قدرة فائقة عليهما ،
لأن تأثير المادة والمادي يحتاج إلى وضع ومحاذاة ، فمثلا : لا يصير الجسم حارا
بتأثير النار إلا إذا كان لها نسبة ووضع خاص منه ، والمصباح إنما يضئ فضاء
يكون على وضع خاص ونسبة خاصة منه
وحيث يستحيل الوضع والنسبة إلى المعدوم ، فلا يمكن تأثير المادة والطبيعة
في الموجودات المختلفة المسبوقة بالعدم ، فوجود كل ما كان معدوما دليل على
وجود قدرة لا يحتاج تأثيرها إلى الوضع والمحاذاة ، وتكون ما وراء الأجسام
والجسمانيات { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون


عقيدتنا في حلقات الحلقة 9


الطريق الثاني

لو عثر على ورقة مطروحة في صحراء مكتوب عليها حروف المعجم من
الألف إلى الياء بالترتيب ، فإن ضمير كل انسان يشهد بأن كتابة تلك الحروف
وترتيبها ناتجة عن فهم وإدراك
وإذا رأى على الورقة كلمة مؤلفة من الحروف المذكورة وكلاما منسقا من
الكلمات ، فإنه سيؤمن بعلم الكاتب وفكره ، بنسبة ذلك التأليف والتنسيق ،
ويستدل به على علمه وحكمته

فهل تكوين نبتة من عناصرها الأولية أقل دلالة على علم صانعها وحكمته
من تركيب جملة من الكلام الدال بوضوح على علم كاتبه ؟
فما بال الانسان يستدل بالسطر على علم كاتبه وحكمته ، ولا يستدل بالنبتة

على علم خالقها وصانعها وحكمته ؟

ما هذه الحكمة والعلم الذي جعل من الماء والتراب ما يبلي قشر الحبة ويحيي
لبها بالحياة النباتية
وأعطى لجذر النبتة قدرة يشق بها الأرض ، ويجذب قوت النبتة وغذاءها من
ظلمة التراب

وهيأ في كل قطعة من مائدة التراب أقواتا لأنواع النباتات والأشجار المختلفة ،
فصارت كل نبتة وشجرة تجد فيها غذاءها الخاص

وجعل جذور كل شجرة لا تجذب إلا الغذاء الخاص الذي ينتج ثمرتها
الخاصة

وجعل الجذور تكافح جاذبية الأرض ، فترسل الماء والغذاء إلى فروع
الشجرة وغصونها
!
وفي نفس الوقت الذي تعمل فيه الجذور في الأعماق ، جعل الفروع والغصون
والأوراق تنشط في الفضاء للحصول على النور والهواء ! ( فكل ميسر لما خلق له ) ( 1

ومهما حاول الانسان تغيير هذه السنة الحكيمة ، ليجعل الجذور - التي خلقت
لتضرب في أعماق التراب - تذهب نحو السماء ، والغصون - التي خلقت لتنشط في
الفضاء - تذهب إلى أعماق الأرض ، يجد أنهما تكافحان نقض هذه السنة ، وتذهبان
في مسيرهما الطبيعي { ولن تجد لسنة الله تبديلا } ( 2

إن التأمل في خلق شجرة واحدة من عروقها إلى آلاف أوراقها ، وما فيها من
أنظمة مدهشة محيرة للعقول ، وما أعطي لكل خلية من خلايا أوراقها من القدرة
على جذب الماء والغذاء من أعماق الأرض بواسطة الجذور ، وارتباطها بما في السماء
والأرض وما بينهما ، والنواميس المؤثرة في حياتها ، من اختلاف الليل والنهار
وتضامن القوى الأرضية والسماوية على إنباتها ، بإفناء بذرها في أصلها وفرعها ،
وإبقاء نوعها بتكوين بذورها في ثمارها ، يكفي للإنسان أن يؤمن بالعلم والحكمة
اللامتناهية وراء ذلك { أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء
فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم
يعدلون } ( 1 ) ، { أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون } ( 2 ) ، { وأنبتنا فيها من كل شئ
موزون } ( 3
إن أية نبتة وشجرة تنظر إليها ، تجدها من جذورها إلى ثمارها آية لعلم الخالق
وقدرته وحكمته ، خاضعة للسنة التي جعلت لأجل تربيتها ورشدها { والنجم و
الشجر يسجدان } ( 4

وكذلك التأمل في حياة كل حيوان ، فإنه يهدي إلى الله تعالى


جاء أبو شاكر الديصاني إلى الإمام الصادق ( عليه السلام ) فقال له : يا جعفر بن محمد
دلني على معبودي

فقال له أبو عبد الله ( عليه السلام ) : إجلس ، فإذا غلام صغير في كفه بيضة يلعب بها ، فقال أبو
عبد الله ( عليه السلام ) : ناولني يا غلام البيضة ، فناوله إياها ، فقال أبو عبد الله ( عليه السلام

يا ديصاني هذا حصن مكنون ، له جلد غليظ ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق ، وتحت الجلد الرقيق
ذهبة مائعة وفضة ذائبة ، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة ، ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة
المائعة ، فهي على حالها ، لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن صلاحها ، ولم يدخل فيها داخل مفسد فيخبر عن
فسادها ، لا يدرى للذكر خلقت أم للأنثى ، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس ، أترى لها مدبرا ؟
!
قال : فأطرق مليا ، ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد
أن محمدا عبده ورسوله ، وأنك إمام وحجة من الله على خلقه ، وأنا تائب مما كنت
فيه ( 1

فأي تدبير صنع هذا الحصن المحكم من مادة الكلس المصفى ، وأودع فيه
الأسرار العجيبة ؟
أي تدبير نسج هذا الحصن من مواد الحب الذي تأكله الدجاجة والطير ، ثم
وضعه في بيت المبيض ، وجعله مقرا آمنا لنمو الفرخ فيه ، وأسكن فيه النطفة
كاللؤلؤة في الصدفة ؟

وحيث إن الجنين منفصل عن أمه ، وليس هناك رحم يوفر له الغذاء ، فقد هيأ
له الغذاء في داخل الحصن ، وجعل بين جدار الحصن الغليظ وبين الفرخ وغذائه
غشاء لطيفا يمنع من وصول الأذى إليه ، ثم خلق في ذلك الجو المظلم جميع أعضاء
الحيوان وقواه من عظام وعضلات وعروق وأعصاب وحواس ، ووضع كل
واحدة منها في موضعها
.
إن التأمل في تركيب العين من تلك الأعضاء فقط وما أودع فيها من لطائف
الصنع ، ووضعها في موضعها الذي يليق بها يحير العقول ، فضلا عن جميعها

ولأجل أن يتمكن من الإرتزاق - إذا خرج - بالتقاط الحب من بين التراب
والأحجار ، جهزه بمنقار صلب من جنس قرون الحيوانات ، لئلا يتأذى بالنقر في
الأرض

ولأجل أن لا يفوته رزقه ، جعل له حويصلة يجمع فيها كل ما وجد من الحب
ويدخره في تلك المحفظة ، ثم يعالجه بعد ذلك ويرسله إلى هاضمته
.
ثم كسا جلده الرقيق بريش وجناحين تقيه الحر والبرد ، والضر والعدو
.
ثم لم يكتف له بضرورات حياته وواجباتها ، حتى أنعم عليه بنوافلها المتعلقة
بمظهره ، فلون ريشه وجناحيه بألوان تسر الناظرين ، قال ( عليه السلام ) : " تنفلق عن مثل ألوان
الطواويس

وبما أن تكامل هذا الحيوان يحتاج إلى الحرارة الموزونة في صدر الدجاجة ،
فإذا بالحيوان الذي لا يهدأ عن السعي والحركة إلا في ظلام الليل ، يخمد في مكانه ،
ويرقد على بيضه هادئا ساكنا طوال المدة التي يحتاج الجنين في البيض إلى تلك
الحرارة
.
فأية حكمة سلطت هذا الخمود والسكون على طائر دائم الحركة ، لتتحقق
حركة الحياة في فرخ جديد ؟

بل أي أستاذ علم الطائر أن يقلب البيض في الليل والنهار حتى لا تفقد أعضاء
الجنين تعادلها ؟ ! وعلم الفرخ عندما يتم خلقه أن يكسر جدار الحصن بمنقاره ،
ويدخل في عالم حياة جديدة أعدت لها أعضاؤه وقواه ؟
 
أية عناية ورحمة أحدثت حركة قسرية في طبيعة أم الفراخ ، تلك التي لم يكن
يؤثر فيها إلا عامل المحافظة على حياتها والدفاع عن نفسها ، فإذا بانقلاب يحدث
فيها ، فتجيش بالعاطفة على فراخها ، تحافظ عليها وتحميها ، وتجعل صدرها درعا
يقيها ، وتبقى هذه الحالة العاطفية طوال المدة التي تحتاج إليها حتى تستعد لإدامة

الحياة بنفسها


ألا يكفينا التأمل في بيضة واحدة لأن يهدينا إلى الذي { خلق فسوى * والذي
قدر فهدى } ( 1 ) ، ومن هنا قال الإمام ( عليه السلام ) : ( أترى لها مدبرا ؟ قال : فأطرق مليا ، ثم قال
:
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وأنك
إمام وحجة على خلقه ، وأنا تائب مما كنت فيه
) .
*
إن العالم القدير الحكيم ، الذي ربى الحبة في ظلمة التربة ، وربى الفرخ في ظلمة
البيضة ، كل واحد لأجل هدف وغرض معين ، هو الذي ربى نطفة الانسان في
ظلمات البطن والرحم ، من أجل هدف وغرض معين ، تلك النطفة التي كانت في
أولها ذرة لا يدركها الطرف ، فاقدة لجميع الأعضاء والقوى الانسانية ، فجهزها
بأنواع الأجهزة للحياة بعد الولادة ، فقد جهزها - على سبيل المثال - بعظام على
مختلف أشكالها ومقاديرها تتناسب مع وظائفها ، وأضاء مشعل الإدراك فيه
بواسطة دماغه بعجائب صنعة تتحير فيها العقول ، وأبقى على حرارة الحياة فيه
بنبضات القلب التي لا يفتر عنها ليلا ونهارا ويفوق عددها الملايين في كل سنة
.
إن التأمل في تركيب أبسط عضو من بدن الانسان يكفي للإيمان بتقدير الخالق
العزيز العليم ، فالأسنان - مثلا - خلقت في ثلاثة أقسام : الثنايا في المقدمة ، ثم
الأنياب ، ثم الطواحن الصغار والكبار ، فماذا كان سيحدث لو خلقت الطواحن
مقدمة على الثنايا والأنياب ، وكانت هذه في موضع الطواحن ، من جهة تقطيع
الطعام ومضغه ، ومن جهة المنظر من حيث القبح والجمال ؟
!
ماذا كان يحدث لو كان حاجباه تحت عينيه ، أو كانت فتحة أنفه إلى الأعلى
بدل الأسفل ؟
!
إن جميع فعاليات الانسان لإعمار الأرض ، من عمله في الزراعة إلى تشييده
أضخم العمارات وأقواها ، وإلى إتقانه أدق الصنائع وأكثرها ظرافة ، متوقف على
بنانه ونمو أظافره
.
فأية قدرة وحكمة جعلت مادة الظفر متوفرة في غذاء الانسان ، وجعلتها تمر
في العمليات المحيرة للعقول من الهضم والمضغ والجذب في أنابيب العروق ، حتى
تصل إلى رؤوس الأصابع ، فتنسج أظافر صلبة ، ثم لكي يتحقق الغرض من خلقها
توثق التلاحم بينها وبين لحم الأصابع بحيث لا يتحمل الانسان فصلهما ، لكن
عندما يتحقق الغرض منها ينفصل أحدهما عن الآخر ، فيمكن للإنسان تقليم
أظافره بسهولة ؟
!
والعجب أن ذلك الغذاء الذي يحمل مادة العظام والأظافر الصلبة المعدة
للفعاليات الصعبة ، نفسه يحمل مادة في نهاية الشفافية واللطافة لجهاز العين
الحساس الدقيق ، تصل إليها عبر العروق ؟
!
فماذا يحدث في نظام حياة البشر ، لو انعكس الأمر في مسار الرزق المقسوم
المعلوم ، فوصل غذاء الأظافر إلى العيون فنبتت فيها أظافر ! ووصل غذاء العيون
إلى رؤوس الأصابع فنسجت عليها أجزاء من العيون ؟
!
*
إنما هذه نماذج من أبسط آثار العلم والحكمة ، غير المحتاجة إلى دقة النظر { وفى
أنفسكم أفلا تبصرون } ( 1 ) ، فكيف إذا وصلنا إلى أعماق أسرار الخلقة ، التي تحتاج إلى
تخصص في علم وظائف الأعضاء وتشريحها ، واستعمال الأجهزة الدقيقة والتفكير
العميق { أو لم يتفكروا في أنفسهم } ( 1
) .
أجل ، إن هذا الموجود الذي لم يكتشف العلماء إلى الآن الأسرار الكامنة في
خلقة جلده وقشره الظاهر على بدنه ، رغم جهودهم الكبيرة لمعرفتها ، فماذا عن
عجائب لبه وباطنه ، من قوة شهوته لجلب ما يلائمه ، وقوة غضبه لحفظ الملائم
ودفع المنافر ، إلى طاقة عقله التي تقوم بالمعادلة بين القوتين عمليا وتهدي الحواس
نظريا { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } ( 2
) .
أي قلم علم وقدرة كتبت هذا الكتاب الملئ بالحكمة على قطرة ماء ؟ ! { فلينظر
الانسان مم خلق * خلق من ماء دافق } ( 3 ) ، { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد
خلق في ظلمت ثلث } ( 4
) .
وأي علم وقدرة وحكمة خلقت من ذرة سابحة في ماء مهين بشرا سويا يتطلع
بشعلة عقله وإدراكه إلى فهم أعماق الآفاق والأنفس { إقرأ وربك الأكرم * الذي
علم بالقلم * علم الانسان ما لم يعلم } ( 5 ) ، ويتخذ الأرض والسماء ميدانا لجولان
أفكاره وقدراته ؟ ! { ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض و
أسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجدل في الله بغير علم ولا هدى
ولا كتب منير } ( 6
) .
وماذا يستطيع الانسان أن يقول أمام هذا العلم والقدرة والرحمة والحكمة إلا
الذي قاله الله عز وجل : { فتبارك الله أحسن الخلقين } ( 1 ) ، وماذا يستطيع أن يفعل
إلا أن يخر إلى الأرض ساجدا ويقول : ( سبحان ربي الأعلى وبحمده ) ؟
!
*
ولقوله تعالى : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه
الحق } ( 2 ) لا بد من نظرة إلى آفاق الكون المشتملة على ملايين الشموس والأقمار
والنجوم ، والتي يصل ضوء بعضها إلى الأرض بعد آلاف السنين الضوئية ( سرعة
الضوء في كل ثانية 300 ألف كيلومتر تقريبا ) ، وبعضها أكبر حجما من الأرض
بملايين المرات
!
إن الفواصل بينها محسوبة بحساب دقيق ، وكل واحدة منها في مدارها
الخاص ، وقد تحقق التعادل بينها بفعل القوة الجاذبة والدافعة العمومية بحيث لا يقع
تصادم بين واحدة وأخرى { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق
النهار وكل في فلك يسبحون } ( 3
) .
والأرض التي أعدت لحياة الانسان ، أحاطها غلاف يصونها من آلاف
الشهب المتناثرة في الفضاء ، بإحالتها إلى البخار إذا اصطدمت به
.
وقد جعل بعد الشمس عن الأرض بنظام دقيق متغير ، لتحقق شرائط تكون
المعادن ونمو النباتات والحيوان والإنسان ، من جهة النور والحرارة ، على أحسن
وجه
!
ونظمت حركات الأرض الوضعية والانتقالية ، لكي يوجد في أكثر الأرض
ليل ونهار ، وطلوع وغروب ، ويحصل بطلوعها النور والضوء في حياة الانسان
فيشرع في فعالياته لأمر معاشه ، وأما عند غروبها فيوافي الليل وينشر ظلامه
لتوفير الهدوء والسكون اللازم لإدامة الحياة بتجديد النشاط ، فلا استدامة
لإشعاع الشمس ، ولا انقطاع له كليا لئلا يختل نظام الحياة { وهو الذي جعل الليل و
النهار خلفة لمن أراد أن يذكر } ( 1 ) ، { ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه
ولتبتغوا من فضله } ( 2 ) ، { قل أرءيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيمة
من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون } ( 3
) .
فالنور والظلمة ، والليل والنهار - مع ما بينهما من غاية التضاد - متفقان
متعاونان ، آخذ كل منهما بيد الآخر لأجل هدف واحد ! فالنهار يجعل ما في
الأرض ، والليل يجعل ما في السماء في معرض رؤية الانسان ، لكي يكون ملك
الأرض والسماء وملكوتهما في معرض بصره وبصيرته
.
فالليل والنهار يورقان صفحات كتاب الوجود للإنسان لكي يقرأ آيات ربه
في صفحة الأرض والسماء { أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق
الله من شئ } ( 4 ) ، { وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من
الموقنين } ( 5
) .
عجبا للإنسان الذي يجعل ملاك العلم والحكمة في البشر ، معرفة الواحد منهم
لبعض الموجودات ، وانطباع أقل قليل قوانين الكون وأسرار الكائنات في ذهنه ،
كيف يمكن أن يرى خالق الذهن والفكر والمقنن للقوانين الحاكمة على الكون
والمبدع لأسرار الخلقة ، فاقدا للعلم والحكمة ؟
!
هذا ، مع أن جميع ما توصلت إليه أذهان العلماء من أسرار الكون وقوانينه ،
ما هو إلا كقطرة من معلومات أمام بحر من المجهولات ؟ ! { وما أوتيتم من العلم إلا
قليلا } ( 1
) .
كيف يتقبل العقل أن الانسان الذي يستطيع أن ينسخ على لوحة ذهنه بعض
سطور من كتاب الوجود ، عالم وحكيم ، بينما مؤلف كتاب الوجود وصانع ناسخه
وجهاز الاستنساخ وما ينسخ ، لا إدراك له ولا شعور ؟
!
كلا ، ولهذا ترى أن فطرة منكر الخالق العالم القادر أيضا تشهد بوجوده { ولئن
سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى
يؤفكون } ( 2 ) ، { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز
العليم } ( 3
) .
دخل رجل من الزنادقة على علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) وعنده جماعة ، فقال له
أبو الحسن ( عليه السلام
) :
"
أيها الرجل أرأيت إن كان القول قولكم - وليس هو كما تقولون - ألسنا وإياكم شرعا سواء ،
ولا يضرنا ما صلينا وصمنا وزكينا وأقررنا ؟ فسكت
.
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : وإن يكن القول قولنا - وهو كما نقول - ألستم قد هلكتم ونجونا ؟
فقال الرجل : رحمك الله فأوجدني كيف هو ، وأين هو ؟
قال : ويلك إن الذي ذهبت إليه غلط ، هو أين الأين وكان ولا أين ، وهو كيف الكيف وكان
ولا كيف ، ولا يعرف بكيفوفية ولا بأينونية ، ولا يدرك بحاسة ولا يقاس بشئ
.
قال الرجل : فإذا إنه لا شئ ، إذ لم يدرك بحاسة من الحواس
!
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ويلك لما عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته ، ونحن إذا عجزت
حواسنا عن إدراكه أيقنا أنه ربنا خلاف الأشياء
.
قال الرجل : فأخبرني متى كان ؟
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : أخبرني متى لم يكن ، فأخبرك متى كان
.
قال الرجل : فما الدليل عليه ؟
قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : إني لما نظرت إلى جسدي فلم يمكني فيه زيادة ولا نقصان في العرض
والطول ، ودفع المكاره عنه ، وجر المنفعة إليه ، علمت أن لهذا البنيان بانيا فأقررت به ، مع ما أرى من
دوران الفلك بقدرته ، وإنشاء السحاب ، وتصريف الرياح ، ومجرى الشمس والقمر والنجوم ، وغير ذلك من
الآيات العجيبات المتقنات ، علمت أن لهذا مقدرا ومنشئا " ( 1
) .
ومعنى قول الإمام ( عليه السلام ) : " ولا يضرنا ما صلينا وصمنا . . . " أن الوظائف الدينية من الايمان
والعمل الصالح وترك المنكرات موجبة لطمأنينة الروح وصلاح المجتمع ، وهذه
الأعمال حتى لو كانت عبثا لكان تحملها بسبب احتمال وجود المبدأ والمعاد
جهدا ضئيلا ، ولازما لأجل دفع الشر وجلب الخير الذي لا حد له
.
ومعنى قوله ( عليه السلام ) : " هو أين الأين . . . " : أن الأين والكيفية عرضان ، والله خالق
الجواهر والأعراض ، فكيف يعقل اتصاف الخالق بخلقه ، والمخلوق لا يكون وصفا
للخالق ، حيث إن اتصاف الخالق بصفات الخلق يستلزم احتياج الخالق إلى خلقه ،
ولهذا لا يحد بالأين والكيف ، ولا يحس بحاسة ولا يقاس بشئ
.
ومعنى قوله ( عليه السلام ) : " ويلك لما عجزت . . . " أن الذي يحصر الوجود بالمحسوس غافل عن
أن الحس موجود ولكنه ليس بمحسوس ، فالسمع - مثلا - موجود وليس
بمسموع ، والبصر موجود وليس بمرئي ، والإنسان يدرك أن غير المتناهي
غير محدود ، مع أن كل محسوس محدود ، وكم من الموجودات الذهنية والخارجية
هي وراء الحس والمحسوس
.
واغتر هذا الشخص بظنه أن الموجود منحصر في المحسوس ، فأنكر خالق
الحس والمحسوس ، فهداه الإمام ( عليه السلام ) إلى أن خالق الحس والمحسوس ، والوهم
والموهوم ، والعقل والمعقول ، لا يحويه حس ، ولا وهم ، ولا عقل ، لأن كل قوة
مدركة تحيط بما تدركه ، والخالق محيط بالخلق ، فلا يمكن أن يكون خالق قوى
الحس والوهم والعقل المحيط بها ، واقعا في حيطة إدراكها ، فيكون المحيط محاطا
!
ثم ، لو كان الله تعالى محسوسا أو موهوما أو معقولا يحويه الذهن ، لصار شبيها
بما تدركه هذه القوى وشريكا له ، وجهة الاشتراك تستلزم جهة اختصاص ،
فيكون وجوده مركبا ، والتركيب من صفات المخلوق لا الخالق ، فلو كان الله تعالى
يحويه حس أو وهم أو عقل ، لكان مخلوقا لا خالقا
.